النبي « صلى الله عليه وآله »
ولكن إذا كان النبي « صلى الله عليه وآله » قد أخبر الناس بأنه يوشك أن يدعى فيجيب ، فلا بد أن يكون قد دبر الأمر بصورة صحيحة ، لتسيير الأمور بعد موته بصورة طبيعية ، ولا بد أن يكون قد قطع الطريق على أي خلاف ممكن أن يحصل ، فهل لنا أن نعرف ماذا فعل النبي « صلى الله عليه وآله » في هذا الاتجاه ؟ !
إنه « صلى الله عليه وآله » كان يعرف : أن معظم الناس قد أعلنوا الإسلام بعد فتح مكة ، أي في السنتين الأخيرتين من حياته « صلى الله عليه وآله » ، وأن إسلام الأكثرين كان سطحياً ، بل صورياً ، فرضته الظروف التي نشأت في المنطقة بعد فتح مكة ، حيث لم يكونوا يعرفون عن هذا الدين الشيء الكثير ، لأنهم كانوا يعيشون في. بواديهم ، ووفق مناهجهم الجاهلية وعاداتهم القبلية ، ولم يكن زعماؤهم يسمحون للمبلغين المسلمين أن يصلوا إليهم ، أو أن يحدثوهم عن هذا الدين وأحكامه ، ومفاهيمه ، وتفاصيله ، و . . و . . ولم يتربَّوا بعد على معاني الإيمان والإسلام ، بل كان زعماؤهم هم الذين يتحكمون بهم ، ويسيَّرون أمورهم ، ويهيمنون على حركتهم . . ومن جهة أخرى : فقد كان هناك طامعون وطامحون قد أذكى طموحهم هذا التوسع السريع والهائل ، الذي كان من نصيب أهل الإسلام في فترة وجيزة جداً . . وهو توسع قد هيأ لهم المال والجاه العريض ، والنفوذ ، والقوة . . وما إلى ذلك من أمور ما كانوا يحلمون بها . . ومن جهة ثالثة : فقد كان في المدينة وحولها ، من لم يرق لهم الانصهار في المجتمع الإسلامي والذوبان فيه ، والانطلاق به في الحياة . . فكانوا يكيدون في الخفاء ، ويشاركون في كل ما يلحق بالإسلام ضرراً مهما كان حجمه ونوعه . . وقد وجد هؤلاء في كثير من مسلمة الفتح سنداً وعضداً أيضاً . . هذا . . عدا عن غيرهم من الفئات التي ما أسلمت ولكنها استسلمت ، فلما وجدت الفرصة لإظهار أمرها لم تتوانَ عن ذلك . . وكل هذا الذي ذكرناه من شأنه أن يصعِّد من درجة الخطورة التي يواجهها الإسلام ، والمخلصون من أهله بعد وفاة رسول الله « صلى الله عليه وآله » . . وكان الهدف الأعظم والأهم هو حفظ تعاليم الإسلام ، وصيانة عقائده ومفاهيمه ، وتمكينها من اختراق هذه السدود ، واجتياز هذه العقبات التي تواجهها ، وتمنع من حصول الأجيال الآتية عليها . وهذا بالذات هو ما فعله رسول الله « صلى الله عليه وآله » . . في حجة الوداع ، وفي العديد من المفاصل الحساسة بعدها . . ولذلك جمع هذه الجموع العظيمة والهائلة ، وجاء بهم إلى أقدس مكان ، وفي أقدس زمان ، مع أقدس إنسان خلقه الله تعالى ، لأداء شعيرة عبادية هي من أعظم الشعائر . وجاء معه أولئك الذين يدبرون في الخفاء ما يدبرون . وكان « صلى الله عليه وآله » يعلم أن مكة وما والاها ؛ من حزبهم ، وإلى جانبهم ، بالإضافة إلى أن طائفة من أهل المدينة وما حولها كانت تتعاطف معهم ، فاختار النبي « صلى الله عليه وآله » عرفة دون سواها - لا مكة ، ولا منى - لأن الجميع حاضر فيها وكلهم على حال الإحرام ، الذي يعني امتناعهم عن ملذاتهم ، وعن كثير من الأمور المحللة لهم ، فهم ممنوعون حتى من إيذاء النملة والقملة ، فضلاً عما سواها ، بعد أن كانوا قد لبوا داعي الله ، وأعلنوا براءتهم من الشرك ورفضهم له ، حين قالوا : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، واعترفوا أيضاً : بأن الحمد والنعمة والملك لله سبحانه ، دون غيره ، فليس لهم أن يفتئتوا عليه تعالى في شيء من ذلك . وهم في يوم دعاء وابتهال وعبادة وتوبة إلى الله تعالى . . وهذا أمر يشارك فيه عشرات الألوف من الحجاج في عرفات ، قد جاؤوا من كل بلد ، ومن كل حي ، ومن كل عشيرة وقبيلة ، وهم في حج لم يحصل مثله فيما مضى ، ولن يكون له مثيل فيما يأتي إلى يوم القيامة . وهو مع أفضل من خلق الله عز وجل ، وهو آخر حجة يحجها ، وقد أعلمهم بأنه يوشك أن يفارقهم ، وسيعود هؤلاء الحجاج إلى بلادهم بأعز ذكرى ، وأجمل ، وأحلى حديث . فما الذي رآه هؤلاء الناس في عرفات ، وما الذي سمعوه ، وما الذي سوف ينقلونه لأهلهم في بلادهم . إن رسول الله « صلى الله عليه وآله » قد خطب الناس في يوم عرفة وحدثهم عن الأئمة ، أو الخلفاء ، أو الأمراء ، وذكر لهم عددهم ، وأنهم اثنا عشر ، فثارت ثائرة أولئك الناس ، الذين رأوا أن ذلك يفسد عليهم خطتهم ، ويضيع جهودهم ، أو على الأقل يضع أمامهم العراقيل . فما كان منهم إلا أن قاموا في وجهه وضجوا وتكلموا ، وصاروا يقومون ويقعدون ، وعلا صراخهم حتى لم يعد بالإمكان سماع شيء مما يقول رسول الله « صلى الله عليه وآله » ، حتى ليقول من روى لنا هذا المشهد : فقال كلمة أصمنيها الناس ، فقلت لأبي - وكان أقرب إلى رسول الله « صلى الله عليه وآله » مني - : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش . فما هذه الجرأة منهم على رسول الله « صلى الله عليه وآله » ، مع أن الله سبحانه قد أوصاهم بأن : * ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) * [1] . وهم في هذا الحج بصدد إنجاز عمل صالح يوجب غفران ذنوبهم . وقال لهم : * ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) * [2] . وقال : * ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) * [3] . وقال : * ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) * [4] . وقال : * ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) * [5] . وآيات أخرى لا مجال لذكرها . فإذا رأى الناس منهم ذلك ، وانتشر عنهم في البلاد والعباد ، وانتقل إلى الأجيال اللاحقة جيلاً بعد جيل ، وسجلته حتى كتب الفرق الإسلامية على اختلافها . . فإن ذلك يعطي انطباعاً عن حقيقة انقياد هؤلاء الناس لرسول الله « صلى الله عليه وآله » ، وعن حقيقة ما يضمرونه من طموحات ، وما يسعون له من مناصب ومآرب . ويكون « صلى الله عليه وآله » قد فتح للناس باب الهداية بذلك ، فتقوم به الحجة عليهم . وعندها يختارون مع أي فريق يكونون ، وفي أي طريق يسيرون .